ووصينا الانسان بوالديه حملته أمة وهنا على وهن وفصالهُ في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير].(لقمان/14) أو
[ وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهُما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفّ ولا تنهرهمُا وقل لهما قولاً كريماً* واخفض لهما جناح الذلّ (109) من الرحمة وقل رب ارحمهُما كما ربّياني صغيراً].(الإسراء/23-24)
لم يخص الاسلام أحداً بالعناية والتكريم كما خصّ الوالدين، ولم يثّبت لاحد من الحقوق على أحد كالحقوق التي ثبّتها للوالدين على أبنائهما.
لذلك نشاهد القرآن يجعل حقّهما بعد حق الله على الانسان، فهو عندما يأمر الانسان بالاعتراف بالفضل وشكر الله وعبادته، يردف الأمر بشكر الوالدين وطاعتهما والاحسان اليهما، والرحمة بهما، والتواضع لهما، فهما سبب وجود الانسان، ومصدر الحياة ومنهل الرعاية والعناية.
فالأم حملته بين أحشائها، وغذّته من دمها، وأرضعته من لبنها، وحنت عليها بحبّها وقلبها، وناغته بأناشيد الحبّ والسرور في ليلها ونهارها، وحرمت من لذيذ النوم من أجل نومه وراحته، ولم تفتأ طيلة
حياتها تحوطه بمشاعر الحب والرعاية وتراه روحها وقلبها النابض في جسد آخر، أليست هذه الانسانة العظيمة حريّة بأن يكون لها من الحقوق ما ليس لأحد؟ وأن يكون لها من عظيم البّر ما يفي ببعض إحسانها؟ فمن أحقّ منها بالاحسان؟ ومن أولى من الولد بالوفاء والعرفان؟
وكم كان قول رسول الله (ص) دالاً، ومعبّراً حين قال لرجل جاء يسأله:
[ يا رسول الله من أبرّ؟ قال: ((أمّك))، قال: ثمّ من؟ قال: ((أمّك))، قال ثم من، قال: ((أمّك))، قال: ثمّ من؟ قال: ((أباك))] (110).
والأب للأبناء هو الحبيب والمربّي والمنفق،الذي يبذل جهده،ويوقف حياته،ويؤثر على نفسه من أجل أن يوفرالعيش السعيد،والحياة الهانئة،فهو يرى أبناءه وجوداً يمثلّ وجوده،وامتداداً يمدّ في الحياة بعد موته.
ولقد كان خطاب الامام عليّ(ع) لولده الحسن لسان حال لكل الآباء الذين يؤمنون بمبادئ علي (ع)، ويحملون روحه ومشاعره:
[ ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي] (111).
فإذا كانت هذه المشاعر الانسانية، والعلاقات الوجدانية النبيلة هي أحاسيس ومشاعر الآباء التي يفيضونها على أبنائهم، كان البّر بالآباء والاحسان إليهم، هو أبسط الواجبات، في منطق الأخلاق وعرف الضمير، التي يؤديّها الأبناء لآبائهم، لتصاغر عطاء الأبناء وعجز حسّهم وشعورهم عن مماثلة عطاء الآباء وأحاسيسهم ومشاعرهم، لذلك كان الواجب هو الاحسان والشكر والعرفان، وهو مجرّد اعتراف بالفضل، ومحاولة لتحقيق الرضى، وليس هو كامل الوفاء أو المعادلة.
ولكي لا يكون الحق الأبوي مجرد وصايا أخلاقية أو مندوبات طوعيّة، حددّ الاسلام هذه الحقوق بواجبات قانونية وتشريعات الزامية، ألزم الأبناء بتنفيذها، وشدّد العقوبة على تاركها، فجعل للآباء على الأبناء حق الرعاية والعناية إذا كبروا واحتاجوا الى من يرعاهم وينهض بشؤونهم، كما أوجب نفقة الآباء على الأبناء عند العجز والحاجة، وأعطى السلطة الشرعية حق التنفيذ والالزام عند ظهور العقوق، وعدّه من كبائر الذنوب، ونهى عن أبسط مظاهره، وهو التأفف والضجر من الوالدين، أو النظر إليهما نظرة مقت وكراهية.
فقد جاء في الحديث الشريف:[أدنى العقوق اُفّ،ولو علم الله عزّوجلّ شيئاً أهون منه لنهى عنه](112).
[ من نظر الى أبويه نظر ماقت، وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة](113).
فالاسلام يطالب الأبناء بالاحسان الى آبائهم وان صدر منهما خطأ بحق الأبناء، وشدّد في وجوب البّر والاحسان اليهما، حتى جعل نظر الحبّ والرأفة للوالدين عبادة، كما جاء في الحديث الشريف: [نظر الولد الى والديه حبّاً لهما عبادة].
ولا ينتهي بر الأبناء بآبائهم في فترة الحياة، بل وتستمر هذه الرابطة الوجدانية والعلاقة الانسانية النبيلة للأبناء بآبائهم حتى بعد مماتهم، فالأب الميت أحوج الى البّر من الأب الحي، فعالم الحياة عالم الأسباب والنشاط الانساني، وبامكان الانسان أن يدير شؤونه أو يستعين بغير أبنائه لقضاء حاجته، أو لتفريج شدّته، وتخفيف عسره، أما الانسان في عالم الآخرة فلا يملك من الأمر شيئاً:
[ هلك عني سلطانيه]. (الحاقة/29)
[ فلا يستطيعون توصيةً ولا الى أهلهم يرجعون].(يس/50)
[ وحيل بينُهم وبين ما يشتهون].(سبأ/54)
فالانسان في عالم الآخرة مقطوع عن عالم الدنيا، وان له فيها وجوداً وعلاقة سببية هي كل حياته التي قضاها فيها.
وإن هذه الصيغة الحياتية هي كل رأسماله في عالم الآخرة، وهو بحاجة الى تصحيح هذا الوجود، وإثرائه وإنمائه بأسباب الخير، لانّ مصيره في عالم الآخرة متوقّف عليه، وها هو قد انقطع عن ذلك العالم، ولا يستطيع العودة إليه، ولم يزل محتاجاً إليه لمعالجة ما طرأ على فترة حياته من سوء وتشويه، فمن الذي يستطيع أن يقوم بهذه المهمّة؟ ومن الذي يجبر انكسار الانسان في حياته وهو بعيد عنها؟ السنّة النبوية تجيبنا على ذلك وتخبرنا أن للانسان امتداداً وجودياً في الحياة، يمكن أن يستمر بعد موته، هذا الامتداد هو جزء من ذاته، وحصيلة طّيبة من غرس يده.
فقد جاء عن الرسول الكريم محمد (ص): [ إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له] فالولد الصالح ينفع أبويه في حياتهما وبعد مماتهما.
لذا فإن الرسول (ص) لم يعتبر برّ الوالدين منقطعاً بانقطاع الحياة، بل اعتبره مستمرّاً فيما بعدها أيضاً.
جاء اعرابي الى رسول الله (ص) فقال: [ يا رسول الله هل بقي من برّ أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: ((نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما وانفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، واكرام صديقهما)) ].
لذلك كان على الأبناء أن يبّروا آباءهم ويحسنوا إليهم، فيعملوا الخير لهم، ويقضوا عنهم ديونهم، وعباداتهم التي ربّما قصّروا بادائها في الحياة، كالصلاة والصوم والحج، ودوام الاستغفار لهم، فإن ذلك حق للآباء على أبنائهم كما جاء في الحديث الشريف: [إن العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثم يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقّاً، وإنه ليكون عاقاّ لهما في حياتهما غير بارّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله عزّ وجلّ بارّاً ] (114).
لذلك أوجبت الشريعة الاسلامية على الابن الأكبر قضاء ما فات الأب من صلاة إن لم يوص الأب أحداً بالقضاء، كما أوجبت على الوارث قضاء الحج، والصوم، وسائر الديون، ورد المظالم الى أهلها من تركة المتوفى نفسه قبل قسمة الميراث.